يعتبر التوحيد مبدأ ميتافيزيقياً يجعل الإنسان قادراً على رؤية كل شيء بعين الوحدة دون ما تشتت أو تضارب أو اختلاف أو شقاق. فالإنسان وحدة واحدة لا تضارب فيه ولا صراع بين مقتضيات الروح ومطالب البدن، والمجتمع وحدة واحدة لا طبقات فيه، والإنسانية وحدة واحدة. وغاية الإنسانية أيضاً واحدة لا تضارب فيها ولا أهواء. فالوحدة مبدأ ميتافيزيقي وليست مبدأ مجرداً، بل هو تصور للعالم يظهر في الإنسان وفي المجتمع وفي التاريخ وفي الكون. تبدو مظاهر الوحدة في كل شيء، في الذهن وفي الواقع، في الداخل وفي الخارج، في الإنسان وفي العالم. فمعارف الإنسان الحسية والعقلية والوجدانية تجتمع كلها لإثبات شيء واحد. والعلوم كلها تبحث حقيقة واحدة، وكل العلوم يمكن ردها إلى موضوع واحد، والمبادئ العقلية العامة يمكن ردها كلها إلى مبدأ واحد هو مبدأ الهوية. والأديان واحدة، ورسالات الأنبياء واحدة، والتاريخ البشري واحد، يكشف عن حقيقة واحدة، ويحكمه قانون واحد. الوحدة أصل كل شيء ومنتهى كل شيء. والكثرة ذاتها ترد إلى الوحدة لأنها تكرار للواحد إلى ما لا نهاية. وكل النظريات والأيديولوجيات الإنسانية التي أثرت في التاريخ، كانت كلها تقوم على الوحدة. ولما كانت الوحدة مانعة من التفرق والاختلاف حارسة من الوقوع في الفتن والحروب والصراعات الدموية، كانت أقدر إلى الجمع بين الأطراف، والتوفيق بين المصالح دون ما تنازل عن حق الوحدة الشاملة على الجميع. ومع ذلك فالوحدة لا تمنع من التعدد والكثرة مثل تعدد اللغات والأجناس، وتعدد الآراء والاجتهادات، ولكنه تعدد في إطار الوحدة. فتعدد اللغات والأجناس لا يمنع من التفاهم والتعاون المشترك.? ?وتعدد? ?الآراء? ?والاجتهادات? ?لا? ?يمنع? ?من? ?وحدة? ?الحقيقة? ?النظرية، ?ووحدة? ?الغاية? ?والهدف. وقد قامت الحضارة الإسلامية على هذه الوحدة. وحدة الحقيقة واختلاف الفرق، وحدة الأصول واختلاف الفروع، وحدة الأمة واختلاف الأمصار، وحدة التاريخ واختلاف المراحل، وحدة الشريعة واختلاف المذاهب، وحدة العقيدة واختلاف التفسيرات...الخ. ولكن عندما ضمر التوحيد كمبدأ ميتافيزيقي ظهر التشتت والتشرذم، وتضاربت الأهواء، وعمت الفتن، وتطايرت الرقاب، وكفّرت كل فرقة الفرق الأخرى، واعتبر كل مذهب نفسه هو الحق ودونه من المذاهب باطلة. فضاعت الوحدة، وانقلب التعدد إلى تشتت، وتحول الخلاف إلى اختلاف. ومظاهر التشتت كثيرة في حياتنا الخاصة والعامة، في التعليم بين التعليم الديني والتعليم العلماني، بين التعليم الوطني والتعليم الأجنبي، بين التعليم العام والتعليم الخاص. كما بدا في الوجهات والمقاصد، فهذا شرقي وذاك غربي، وهذا اشتراكي وذاك رأسمالي، وهذا قومي والآخر إسلامي، وأنا وطني وهو «عميل»، ونحن المناضلون وهم «الخونة». ومع ذلك، تبقى الوحدة هدفاً قومياً، ومطلباً شعبياً، وغاية ومقصداً. تحرك الجماهير، تفرح لوجودها، وتسعى لتحقيقها، وتحزن لفراقها، وتتألم لضياعها. هذه الوحدة كمبدأ فلسفي عام ما زال ضامراً في شعور الناس، يحركهم لاشعورياً، وقادر، إذا ما تحول إلى الشعور، أن يقضي على التشرذم والتفتت وأن يوحد أوصال الأمة، ويوحدها من جديد. والتوحيد مبدأ كوني يفسر نشأة العالم وتطوره ونهايته. التوحيد بداية العالم، مبدأ أولي كوني، بداية مطلقة ليست قبلها بداية أخرى. وهو مساوق لتطور العالم، لا يغيب عنه، يسايره ويحاذيه. يقوم هذا المبدأ الكوني إذن بالربط بين الإنسان والعالم. كما يجعل هذا المبدأ الكوني الإنسان أبعد عن الشك والحيرة فيما يتعلق بنشأة الكون بين النظريات العلمية المختلفة التي تحاول كلها صياغة نظرية تقوم على الاتصال الكمي دون التمايز الكيفي، وبالتالي يقدر الإنسان على أن يأخذ منها جميعاً موقفاً، وعلى إعطاء البديل الآخر، كما يساعد الإنسان على اكتشاف قوانين التطور الداخلي في الوجود بعد نشأته، والتعرف عليها ومسايرتها. فالإنسان فاعل في التاريخ، وجزء من حركته، وبالتالي يذهب عنه أي عجز عن مواجهة الواقع. كما يساعد المبدأ الكوني الإنسان على التنبؤ بالمستقبل بعد معرفة قوانين التطور، وإدراك المستقبل طبقاً لها، وبالتالي يغيب عنه الخوف من المجهول، بل يصبح المجهول لديه معلوماً. كما أنه يمنع من تصور الكون على أنه مادة خالصة إذ أن الكون مادة وصورة، وبالتالي يحمي الإنسان من التجريبية الخالصة، ومن الصورية الخالصة، وهما عنصر العلم. ومن ثم لا يتأزم العلم بفقدانه أحد عنصريه كما حدث في الوعي الأوروبي. كما يجعل الإنسان مرتبطاً بالطبيعة وملتصقاً بها، فالطبيعة قريبة من المبدأ، والمبدأ قريب من الطبيعة، وبالتالي ينشأ العلم بتوجه الإنسان نحو الطبيعة. كما أنه يجعل الإنسان عاملاً في الطبيعة، مؤثراً في الكون، مثبتاً للعالم، غير زاهد فيه أو ناكر له. وقد ظهر هذا المبدأ الكوني في الحضارة الإسلامية فنشأ العلم، وسيطر القدماء على قوانين الطبيعة، وأوجدوا أنفسهم في العالم، ودخلوا التاريخ. وأصبحت مهمتنا نحن التعرف على العلم العربي، نبعثه من جديد بعد أن ترجمه الغرب وطوره وأنشأ العلم الحديث. فقد نشأ العلم العربي على هذا المبدأ الكوني الذي كان موجهاً لذهن العلماء نحو الطبيعة. ولكن لما ضاع هذا التصور، التوحيد كمبدأ كوني، وانهارت الحضارة العربية الإسلامية مؤقتاً، وتوارى المبدأ تحول التوحيد دون تمثل علاقة الإنسان بالكون. ثم تصورنا العالم على أنه لا قوام له ولا قانون بفضل حدوث العالم الذي حولناه من مستوى العمل، أي أن العالم طيّع للإرادة الإنسانية، إلى مستوى النظر أي غياب القانون كما حدث عند الأشاعرة. كما تصورنا العالم على أنه روح، وذرات، ومعانٍ. فتبخرت المادة. ومع ذلك، ظهر التوحيد كمبدأ كوني في الاعتزال، عند الطبائعيين، فأثبت المعتزلة قوانين الطبيعة، واستقلال العالم. وبعد المعتزلة توارى هذا التصور من وجداننا المعاصر، وانزوى في المخزون الثقافي اللاشعوري. ومن ثم يمكن للتوحيد كمبدأ كوني تجاوز مرحلة الكمون إلى مرحلة الظهور، والعودة إلى وظيفة التوحيد الأولى التي على أساسها قامت الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى، وإنهاء ضمور التوحيد في القرون الأخيرة وإسقاط العالم من الحساب حتى سلب منا واستولى عليه الغير. ويظل التوحيد كمبدأ كوني أحد مقومات الشخصية العربية الإسلامية.